رئيس نادي أبها الأدبي بمجلس ألمع الثقافي بمحاضرة (الجنون في الثقافة العربية)

أكّد الدكتور أحمد آل مريع رئيس نادي أبها الأدبي أن العقل في الثقافة العربية تمّ اختزاله وتشكيله على فترة معينة ، حيث ظلّ مستعبداً لهذه المرحلة ولم يتجدّد أو يتعدّد ، جاء ذلك في محاضرة ألقاها في مجلس ألمع الثقافي عن ” الجنون في الثقافة العربية … الاستبعاد والنفي ” قدّم له فيها الكاتب إبراهيم طالع الألمعي بقوله : إنّ سرّ جمال هذه المحاضرة أنّ أصلها رسالة دكتوراه قال عنها الدكتور عبدالله الغذامي: إنّها من أهمّ الرسائل العلمية التي نوقشت في جامعة الملك سعود ، وأضاف آل مريع أنّ تجلي العقل في الثقافة جاء نتيجة ارتهانه بقيم أخلاقية نشأت ضمن الواقع الاجتماعي. حيث وصف بالفضيلة تارة وبالاستقامة تارة،ووصف بالمشهور تارة ثانية؛ لأن المشهور في ممارسة الجميع يأخذ معنى القيمة، لذلك يكون وجهًا آخر للفضيلة/الاستقامة ، وعدّ آل مريع العقل ممارسة اجتماعية تأنس للتقليد والاتباع، وليس العقل العلم ولا المعرفة وأضاف العقل نظام من العمليات، أو طائفة من المستقرات والأنساق الفاعلة في الثقافة؛ ومن هنا تفرق الثقافة تفريقًا واضحا وقويّا بين: القدرات الذهنية، وتحصيل المعارف، والمشاركة المميزة فيها وبين الاستجابة العقلية.

وفي مفهوم الجنون ذكر آل مريع أنّ المعجم العربي يورد عددًا من المعاني الجزئية لمادة (ج.ن.ن) التي يمكن لنا أن نجعلها تؤول في نهاية المطاف إلى ثلاث دلالات رئيسة كبرى، هي: الخفاء، والمغايرة، والعنفوان . يكفينا أن نتتبع لفظة الجنون في الاستخدامات اللغوية البليغة المحفوظة سنجد ما يؤكد ذلك ،فالجنون يطلق على كل شخص أو عمل اتصف بصفات تجعله: غير متوافق مع محيطه الاجتماعي أو تجعل من فعله أو قوله أمرًا غير متوقع، (غير مقبول- غير سائغ)، وإن كان الشخص في ذاته عاقلاً، أو كان العمل صادرًا عمّن عرف بعقله وإدراكه .

وحول مسوّغات اتهام الأمم لرسلها بالجنون، وجعله مقبولاً لدى كثير من الناس على الرغم من أن كلام المجانين وسلوكهم مضطرب أشار آل مريع إلى أنّ الأنبياء عليهم السلام خالفوا مجتمعاتهم في عاداتهم. وهنا تتداخل الصورتان: المرضية للجنون والصورة الاجتماعية- الثقافية، وتلتبسان، فتأخذ الثانية أحكام الأولى وتسقط صفات الأولى على الثانية ، لذلك اقترنت تهمة الجنون في بعض السياقات في القرآن بصفات غير عادية مثل: (شاعر – ساحر- كاهن- مُعلَّم) بالإضافة إلى اتهامات أخرى جاءت غير مقترنة بالجنون، لكنها صفات لا يمكن إغفالها لصلتها بالسياق نفسه الذي جاء فيه استخدام الجنون، وهو سياق نبز الأنبياء ووصف النبوة من قبل الأمم المكذبة، وهذه الأوصاف: (كاذب- كذّاب- أشر- يُعلمه بشر- اكتتب ـ أساطير الأولين- أعانه عليه قوم آخرون). وهذا يدلُ على أننا بإزاء جنون أزعج المكذِّبين واستنفر قواهم لمناهضته، وليس هو بالجنون السلبي: الصامت، المنعزل: الغارق في أفكاره. وهذه الأوصاف المتباينة: أوصاف تتنافى- ولا شك – مع دلالة الجنون السلبية، التي تكاد تستغرق تصورنا السائد اليوم ،فالجنون الذي يرمى به الرسل، ومنهم محمد عليه الصلاة والسلام، جنون ذو فعل، له حضوره المؤثر، وخطابه المضاد المخالف لماهم عليه؛ مما سوّغ لهم وصفه بالأشر، وليس-كما قد نتوهمه- تهمة مجردة من دلالات الغرابة المنطوية في ذاتها على قوة وقدرة، وقهر وسلطان؛ ولو نافت في نوعها نوع النبوة .

وفي غياب الجانب الموضوعي في وصف الجنون أشار آل مريع إلى أنّ الوصف يجعل توظيف “الجنون” في وجهه الثقافي توظيفًا متحيزًا في أكثر الأحيان لصالح النموذج العالم/ المؤسسي أيّا كان مجال حضوره وفاعليته، بصفته: سلاحًا لغويًّا، وموقفًا اجتماعيًّا، وتحيزًا معرفيّا، يستبطن السلطة لعزل المخالف/المتجاوز/المستغلق ونفيه؛ خارج دائرة العناية والاشتغال؛ أكثر من كونه وصفًا حقيقيٍّا لنقص في الكفاءة .

وعن تلقّي الثقافة الرسمية للجنون أشار آل مريع إلى أنّ ذلك يتمّ من خلال تحديد موقعين مؤسسيين فاعلين، هما: المؤسسة اللغوية، وما سمّاه”منطقة المفاهيم” ، حيث إنّ الموقع المؤسسي الأول: تؤثر اللغة في طريقة رؤية أهلها للعالم، وفي كيفية مفصلتهم له، لأن اللغة ليست وسيلة للتعبير فحسب، ولكنها وسيط معرفي، يتموضع بين الذّات المدركة وبين عمليّة الإدراك وبين العالم الخارجي. ما يجعلها أشبه بالسلطة التشريعية، التي توجه مستخدميها وتحدد لهم ما يقولونه ، وأضاف أنّ اللغة تعترف بالجنون كوجود يشغل حيزًا من الإدراك، إذ إن منح الشيء اسمًا (جنون- مجنون) إدراك لوجوده واعتراف بهوية مستقلة تستدعي الإعلان عنه بالتسمية ، كما أنّ المؤسسة اللغوية ترصد وجود الجنون وتستوعبه من خلال حقل لغوي واسع جدًّا، وغنيّ بمختلف الدوال، وصلت إلى نحو ثمانين اسمًا. وفي هذا دلالة على الثراء المعرفي – الاجتماعي على صعيدي: المراقبة لمظاهر الاضطراب والانحراف، والقدرة على الكشف عن التباينات الدقيقة داخل الحقل الدلالي الواحد، وتوزيع هذا الوعي على أسماء، ينال كل منها وصفًا بحسب تصوّر الواضع/ المستخدم اللغوي= الثقافي. ومع هذا فهي جميعًا تشترك في دلالتها على الانفصال عن السمت الاجتماعي المألوف .

وقد رصد المحاضر الممارسة الثقافية المؤسسية في حقلين معرفيين من حقول الثقافة العالِمة، وهما: الفقه والأدب. حيث لاحظ المحاضر أنّ الممارسة في كلا الحقلين تصدر عن القوالب الإدراكية ذاتها، التي قدمتها أو صنعتها كلّ من مؤسسة “اللغة” ومؤسسة “المفاهيم”. حيث وفرت للممارسة الخبرة والمرجعية الضرورية، التي تهيئ لاتخاذ المواقف الثقافية اللازمة حيال الجنون، وحيال ما يصدر عن المجنون، وتحقق بذلك وحدةً و”انسجامًا معرفيًّا” في تلقي الجنون.

وحول الجنون في الممارسة الأدبية أشار آل مريع إلى أنّ تلقي الجنون يتركز في ثلاث صور تتجلى في معارض التلقي المختلفة. وقد تتداخل هذه الصور الثلاث وقد تتمايز وتستقل؛ ولكنها تتواطأ جميعًا- حال استقلالها أو تداخلها- على نفي الجنون كوجود ثقافي (في الثقافة العالمة) بالإعراض عن سماع المجنون كلية ، ومبادرة ال المتلقي إلى الدّفع بالكلام إلى دائرة المهمَّش، لأنه هذيان ساقط لا يحتاج لأي نقد أو استدراك، ولا يرقى للحضور الفاعل على مستوى “التداول الثقافي” ، وتفريغ كلام المجنون من (المعنى). وذلك حين يكون صوت المجنون قد تجاوز عقبة الرواية،وأفلت من خانة التهميش، وحضر في سياق جاد؛ فإن القانون الثقافي يحمل المتلقي على تفريغ الكلام من مضمونه، وتعطيل حركة الدلالة فيه. لأن مرتبة الكلام كمرتبة الرواية، مرتبة مؤسسية لا تمنح إلا لمن يستحقها. فلا يجوز أن يكون للمجنون صوت!

وفي ختام المحاضرة أجاب آل مريع على أسئلة الحاضرين المتعدّدة والتي تركّزت على الممارسات الثقافية في المدونة التراثيّة وهل بقيت رهنًا للتنميط،أم أن هنالك اجتهادات ثقافية مختلفة ؟!

أجاب آل مريع بأنّ السؤال يحتاج إلى بحث خاص للإجابة عليه، لأن هنالك آليات ثقافية وحيلاً؛ لاستعادة الأصوات المهموسة والغائبة/ المغيَّبة، وتدوير المهمّش ضمن الوعي الرسمي للثقافة، لا يمكن لها أن تنفذ إلى أفق الوعي الثقافي والاستهلاك دون أن تمر من خلال استحضارها واستخدامها. وحتى لا يكون كلامنا إرسالاً للأحكام كيفما اتفق؛ وهو ما وعد أن يكون هذا السؤال المعرفي النقدي مجال مشروع قادم عن: “خطاب الجنون: الاستعادة والحضور” .

في ختام المحاضرة أجب آل مريع على أسئلة المداخلين ، ومنهم :

الدكتور سعيد مفرح القحطاني ـ الأديب إبراهيم ضواح ـ الدكتور يحيى البريدي ـ ماجد الجفظي ـ فيصل الحفظي ـ علي مغاوي ـ محمد البريدي ـ إبراهيم العامر ـ عبدالله السلمي .

وقد سلّم الإعلامي الإعلامي عبدالله السلمي عضو المجلس الضيف شهادة تقدير من المجلس نيابة عن كلّ أعضائه .


شاهد أيضاً

أدبي أبها يحتفي بأول اصدارات اللجان الثقافية بمحافظات المنطقة

دشن نادي أبها الأدبي ثلاثة أصدرت جديدة منها اصدران للجان الثقافية التابعة لنادي أبها الأدبي …

اترك تعليقاً